تأمُّلات بلاغِيــة فى آىِ سورة طه

كان عمر بن الخطاب .. رضي الله عنه ..رجلٌ يفرُقُ الله به بين الحق والباطِل .. أسلم فقط بقرائته بدايات سورةِ طه ..

رجلٌ كان قلبه يحمل كل تلك الشّدة والغِلظة فى الجاهليّة ..وأسلم بآياتٍ فى صَدر تلك السورة ..

تُُرى .. ما المعانى التى تحملها تلك الآيات بحيث تحرك كل تلك الشدة والغِلظة فى قلب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قبل إسـلامه ؟؟؟ ...رضى الله عنه وأرضاه ..

فلنتدبر معًا ..

***********

***بسمِ اللهِ الرّحمـــنِ الرّحيم***

(طه{1} مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى{2} إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى{3} تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى{4} الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى{5} لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى{6} وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى{7} اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى{8})

سبحان الله ..

مجرد قراءة تلك الآيات تقذفُ فى القلب هيبةً ورهبةً عجيبة ..وفى نفس الوقت رقّةً شديدة ..

آياتٌ ... نشعر أنها ترغيب وترهيب فى نفسِ الوقت ..

فنرى من اللطفِ العجيب فيها : " طه * ما أنزلنا عليك القُرآنَ لتشقى " وقد قرأت من قبل أنّهُ قيل فى تفسير قوله تعالى " طه " أن هناك همزة حُذِفت للتخفيف ..

وأصلها " طأها " أى طأ قدمك على الأرض .. لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل بقدمِ واحدة فى بدايةِ الوحى ..

فجاء أمر الله تبارك وتعالى له بأن يطأ القدم الأخرى ..فلم ينزل القرآن ليشقى ويتعب هكذا.. " طه .. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " ..

ولكن .. سبحان الله ...سرعان ما تذكّرنا الآيات وتُخرِجنا من الترغيب إلى الترهيب " إلا تذكرةً لمن يخشى " ..

سبحان الله ..وصف لُغوى بديع ..فالخشية غير الخوف ..

***فيا تُرى .. ما الفرق بين الخشية والخوف ؟؟***

يقول الزّركشىّ : " الخشية أعلى من الخوف وهي أشد الخوف , فإنها مأخوذة من قولهم : شجرة خَشِيّة , إذا كانت يابسة , وذلك فواتٌ بالكلية ... والخوف من قولهم : ناقة خَوْفاء : إذا كان بها داء , وذلك نقص وليس بفوات , ومن ثمة خُصت الخشية بالله تعالى في قوله : ( ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) "

إن الخشية تكون من عِظَم المَخشىّ , وإن كان الخاشي قويًّا ..

والخوف يكون من ضعف الخائف , وإن كان المُخوِّفُ أمرًا يسيرًَا ..

فالخشية أعمقُ من الخوف ..الخشية تكون تقديرًا و إكبارًا لله عز و جل و استحضارا لاطلاع الله علينا عليناأينما كنا ..وعلمه وإحاطته بما خفى منا وما عَلَن ..ووجلٌ من أن يرانا الله على معصية بعد كل أفضالِهِ علينا ..لكن إذا نظرنا إلى معنى الخَوف .. فهو الخوف الحسىّ من العقاب ..خوفٌ من الألم الذى يصاحب العقاب ..خوفٌ من العذاب لا من المُعذِّب .. (( قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذابَ يومٍ عظيم ))

ولذلك قال الله تعالى عن إبليس (( كَمَثلِ الشيطان إذ قالَ للإنسان ِاكفُر فلما كَفَرَ قال إنّى برئٌ منك إنى أخاف الله رب العالمين ))) ..

بينما وصف الله عباده المؤمنين ((( ويخشون ربّهم ويخافون سوءَ الحِساب))) .. فالخشية من الله تعالى لذاتِهِ وجلاله سبحانه ..أمّا الخوف فمن العذاب الأليم من الله تعالى ((نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم * وأن عذابى هو العذاب الأليم )) ...

لذلك نرى تتابع الآيات بعد ذلك تُظهِر وتوضِّح عظمةَ الله تبارك وتعالى وجلالَه وكمالَه ..والتى تستوجب خشيته ..

لنقرأها مرةً أُخرى مستحضرين عظمة الله تبارك وتعالى ...

(((طه

مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى

إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى

تنزيلاً ممّن خلقَ الأرضَ والسّماواتِ العُلى

الرّحمنُ على العرشِ استوى

له ما فى السّماواتِ

وما فى الأرضِ

وما بينهما

وما تحتَ الثّرى

وإن تجهر بالقولِ ..فإنهُ يعلم السِّرَ وأخفى

الله ..

لا إله إلا هو

له الأسمــاء الحُسنى )))

وعندما نعلم أن الله مطلعٌ على سرِّنا وعلانيتِنا .. أيضًا يكون فى ذلك غاية الترغيب .. وفى نفس الوقت .. غايةِ الترهيب ..

غاية الترغيبِ فى قرب الله منّا .. مناجاتنا له ودعائنا له وحده سبحانه واستعانتنا به ..فهو الأقربُ إلينا من كل شىء ...

وفى نفس الوقتِ غاية التّرهيب .. بأنّ الله مطلع على أعمالِنا .. ونوايانا .. ولا يخفى عليه شىء ..

وسُبحان الله ..فقد جاء قوله تعالى " فإنّه يعلم السِّرَ وأخفى " ..

هل هناك شيئًا هو أخفى إلي أنفُسِنا من السّر ؟؟

نعم ..فما نكنّه فى أنفسنا ولا يعلمه غيرنا وغير من ارتضينا أن نبوحَ له به هو السِّر ..

وهناك ما هو أخفى من ذلك ..مما هو فى أنفسنا ولا نعلمه .. الله وحده سبحانه هو الأعلمُ بِهِ ..وهذا يجعل المؤمن قلبه فى وجل أن يعلم الله من نفسه شرًا لا يعلمه هو ..

فالمؤمن يخشى الله تبارك وتعالى لعظمته وجلاله وقدرته سبحانه .. ويخافه لقوته وعذابه الأليم ..

قال الإمام الحافظ ابن الجوزي في تبصرته في قوله تعالى { وخافون إن كنتم مؤمنين } : الخوف واجب على كل مؤمن , وهو واقع بأسباب . فمنها الخوف بسابق الذنب , ومنها حذر التقصير في الواجبات , ومنها الخوف من السابقة أن تكون على ما يكره , ومنها خوف الإجلال والتعظيم كما قال تعالى { يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } ومن تفكر فيما عليه في السابق لم يزل منزعجا خائفا خوفا لا يملك رده .

قال الإمام بن القيِّم : والخشية أخص من الخوف فإنها للعلماء بالله .

قال تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء } فهي خوف مقرون بمعرفة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم {إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية } فالخوف حركة , والخشية انجماع وانقباض وسكون . فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك له حالتان :
إحداهما : حركته للهرب منه وهي حالة الخوف .
والثانية : سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه وهي الخشية .

*****

فاللهم ارزقنا خشيتك فى السِّر و العلن ياربّ العالمين ..وارزقنا اللهُمّ صلاحَ الظّاهر والباطِن ..

اللهم ارزقنا خشيتك فى السَراءِ والضّراء ..واجعلنا اللهم ممّن قلت فيهم (( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة ٌ ورزقٌ كريم ))

واجعلنا اللهم ممن خاف مقامَكَ وخاف وعيد ..

اللهُم آمين .. آمين يارب العالمين ..

وآَخِرُ دعوانا أن الحَمـدُ للهِ ربّ العالمين ..

زائر

يعطيك العافيــه على الموضوع الاكثر من رائع

تقبل مروري

دمــت بــود